فصل: 2 - الأسلوب القرآني:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المعجزة الكبرى القرآن



.الكلمة مع أخواتها والعبارات مع رفيقاتها:

54 - قلنا: إن للكلمة إشراقًا خاصًّا، فكل كلمة لها إشعاع فكري، ولكنها لا يبدو منها ذلك الإشعاع والبلاغة البيانية إلا مع أخت لها تناسبها، وتتلاقى فكريًّا معها، فمثلًا كلمة - تنفس - التي ذكرناها في قوله تعالى: {وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّس} لا ينبعث منها ذلك الإشعاع الفكري إلّا إذا كانت كلمة الصبح معها، فلا بُدَّ لكي يكون ذلك الإشعاع المعنوي صحيحًا واضحًا مؤديًا إلى غايته من أن يكون مقترنًا بالصبح، ومع أن الإشعاع منها وحدها، إلّا أنه لا يضيء إلا مع كلمة الصبح، وكلمة الصبح تفترق عن كلمة الفجر، إلّا إذا كان يتبعه التنفس والإسفار، فالصبح والتنفس متلازمان، وإن كان كل منهما مؤديًا معنى مستقلًّا، والتلازم كان بألا يتبين ذكل المعنى الاستقلالي إلا بضم الأخرى إلى الأولى.
وذلك ما أشرنا إليه في ابتداء الكلام في بلاغة الكلمة القرآنية، وما ارتضاه الجرجاني الذي حمل عبئ القول عن نفي بلاغة اللفظ المنفرد، فقيد نفيه بأن يكون مستقلًّا منفردًا، فإذا انضم إلى غير بدت بلاغة الكلمة في أنه يكون لها صورة بيانية وبانضمامها تكون لها صورة بيانية من الهيئة المجتمعة.
وقد راجعنا من بعد ذلك القاضي عبد الجبار في كتابه (إعجاز القرآن)، فوجدناه يقرر فصاحة الكلمة منفردة، ولكن لا تبدو بلاغة معانيها إلا إذا تضامت مع غيرها، فهو يقول:
اعلم أن الفصاحة لا تظهر في إفراد الكلام، وإنما تظهر في الكلام بالضم على طريقة مخصوصة، ولا بُدّ مع الضم من أن يكون لكل كلمة ابتداء، وقد يجوز أن تكون هذه الصفة بالمواضعة التي تناول الضم، وقد تكون بالإعراب الذي له مدخل فيه، وقد تكون بالموقع، وليس لهذه الأقسام رابع؛ لأنه إما أن تعتبر فيه الكلمة أو حركاتها أو موقعها، ولا بد من هذا الاعتناق في كل كلمة، ثم لا بد من اعتبار مثله في الكلمات إذا انضم بعضها إلى بعض؛ لأنه قد يكون لها عند الانضمام صفة، وكذلك لكيفية إعرابها وحركاتها وموقعها، فعلى هذا الوجه الذي ذكرناه، إنما تظهر مزية الفصاحة بهذه الوجوه دون ما عداها.
هذا كلام من ذلك الإمام المعتزلي، نهج فيه نهجًا فلسفيًا، ولكنه يؤدي إلى ما قصدنا إلى بيانه، ولعله يريد من المواضعة الوضع اللغوي للكلمة، ويشمل ذلك الأصل اللغوي، والحقيقة العرفية، والمجاز والاستعارة والتنبيه، وغير ذلك، ويريد من الموقع موقع الكلمة من أخواتها من غير تنافر بينهما، بحيث تكون الكلمة لقف أختها، متناسقة متناسبة، ولعله يريد من موقع اختيار الكلمة في وضعها بأن تكون فاعلًا أو مفعولًا أو حالًا، أو فيها اختصاص؛ إذ عبَّر بالإشارة القريبة، وهكذا، فهو لم ينظر إلى بنية الكلمة وحدها، بل نظر إلى موقعها من الإعراب.
وعلى ذلك نرى أنَّ الكلمة البليغة تظهر بلاغتها مع أخواتها، وأنَّ الكلمة قد تكون بليغة في موضع، ولا تكون بليغة في موضع آخر في كلام الناس، أمَّا القرآن فالكلمة تكون بليغة دائمًا؛ لأنَّ منزل القرآن وهو الله تعالى يضع الكلمات في مواضعها، وفي الكلام الذي ينسب إلى الناس قد تكون اللفظة في موضع بليغة، وفي غيره غير ذلك، ولذلك يقول عبد الجبار في تفاوت كلام الناس: لا بُدَّ في الكلامين اللذين أحدهما يكون أفصح من الآخر أن يكون إنما زادوا عليه بكلِّ ذلك أو بعضه - أي: بالأمور السابقة، ولا يمنع في اللفظة الواحدة أن تكون إذا استعملت في معنى تكون أفصح منها إذا استعملت في غيره. والله أعلم.

.2 - الأسلوب القرآني:

55 - قد تكلمنا في سابق قولنا في ألفاظ القرآن المفردة، أنّ اللفظ المفرد له بلاغة خاصة في ضمن الأسلوب، وأن كل كلمة في جملة من الكلام تدل بمفردها على معانٍ تتساوق مع المعنى الجملي للكلام، وأن كل كلمة تكون بمفردها صورة بيانية تكون جزءًا من الصورة العامَّة للقول، وقلنا: إن ذلك ليس معناه أن الكلمة لو جردت من الكلام تعطي وحدها ذلك الإشراق، ولكن ينبثق نورها بالتضام مع غيرها من غير أن يفنى ضوءها في ضوئه، ولا تنمحي صورتها البيانية التي أشرقت بهذا التضامّ.
وقلنا: إنَّ ذلك لم ينكره أحد حتى الجرجاني الذي تشدَّد في اعتبار الأسلوب وحده هو سر الإعجاز، من غير التفات إلى معاني المفردات.
وإذا أردنا أن نحرِّر القول الذي رآه الأكثرون، وخالف فيه الجرجاني ومن لفّ لفه، فإننا نقول: إنَّ كلمات القرآن لها في تناسق حروفها وتلاقي مخارجها إشراق بلاغي، ولكن لا ينكشف ذلك الإشراق إلَّا بالتضام، أي: إنَّ الإشراق ذاتي، وهو الأصل، ولكن شرط ظهوره تضام الكلمة مع غيرها.
وفي هذا المقام نتكلَّم على الأسلوب والصور البيانية التي تتكون منه، والتآخي بين ألفاظه في النغم وفي تناسق القول؛ بحيث تكون كل كلمة في موضعها الذي وضعت لا تنفر من أختها، ولا يمكن تغييرها، وكأن الكلمات في الأسلوب نجوم السماء وأبراجها، لا تزايل أماكنها، ولا تخرج من مواطنها، ويقول في ذلك القاضي عياض في (الشفاء):
الوجه الثاني من إعجازه صورة نظمه العجيب، والأسلوب الغريب المخالف لأساليب كلام العرب، ومناهج نظمها ونثرها الذي جاء عليه، ولم يوجد قبله ولا بعده نظير له، ولا استطاع أحد مماثلة شيء منه، بل حارت فيه عقولهم، وتدلهت دونه أحلامهم، ولم يهتدوا إلى مثله في جنس كلامهم من نثر أو نظم أو سجع أو رجز أو شعر.
وإن الأسلوب هو الصورة البيانية التي تظهر في معنى رائع، وكلام مشرق، يثير في النفس أخيلة الحقيقة يصورها ويبينها، ويحس الإنسان فيها بأطياف المعاني، كما يحس بأطايف الصورة على حسب تثقيف المصور، وحسن الاختيار في ألوان الصور، فللأساليب ألوان تحسن وتنسق، وتصريف في أوضاعها كما قال تعالى: {انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ} [الأنعام: 65].
ولقد قال في هذا المعنى الخطابي في رسالة إعجاز القرآن: وأما رسوم النظم فالحاجة إلى الثقافة والحذق فيها أكثر؛ لأنها لجام الألفاظ، وزمام المعاني، وبه تنتظم أجزاء الكلام، ويلتئم بعضه ببعضه فتقوم له صورة في النفس فيتكلم بها البيان. وإذا كان الأمر في ذلك على ما وصفناه، فقد علم أنه ليس المغرد بذرب اللسان وطلاقته كافيًا في هذا الشأن، ولا كل من أوتي حظًّا من بديهة حاضرة وعارضة كان ناهضًا بحمله ومضطلعًا بعبئه، ما لم يجمع إليها سائر الشروط التي ذكرناها على الوجه الذي حدَّدناه، وأنَّى لهم ذلك، ومن لهم به: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88].
وإنَّ الشروط التي ذكرها في آنف قوله هو اختيار الألفاظ من ناحية معانيها، وقوة تماسكها بعضها ببعض، وأشار إلى أنَّ الألفاظ قد تكون مترادفة في الظاهر، ولكن عند التحقق في مرماها يكون الاختلاف، وإن كان المعنى الجملي واحدًا.
وإنَّ الناظر إلى أسلوب القرآن الكريم في الخطاب والبيان يجده مختلفًا، فمثلًا أحيانًا يكون بالاستفهام، والاستفهام أحيانًا للتوبيخ، وأحيانًا للتقرير، وأحيانًا يكون للتنبيه، والكلام يكون بإطناب لا حشو فيه قط، ومعاذ الله أن يكون في كلامه تعالى ما يشبهه، وفي الإطناب يكون تكرار القول، وأحيانًا يكون الكلام إيجازًا ليس فيه إخلال، وأحيانًا يكون الكلام تهديدًا تضطرب له القلوب وتفزع، وأحيانًا يكون توجيهًا يدعو إلى التأمل والفكر، وأحيانًا ببيان أحكام الحلال والحرام وتوجيه أنظار المكلفين إلى حكمها، وكل ذلك في أسلوب متناسب مؤتلفة ألفاظه، ومؤتلفة معانيه، بحيث يتكّون من الجميع صورة بيانية متناسقة في معانيها مؤتلفة في ألفاظها لا ينبو واحد منها في لفظ أو معنى، بل يتآخى الجميع.

.التآلف في الألفاظ والمعاني:

56 - التآلف في الألفاظ، بألَّا تكون بينها نفرة في المخارج، ولا نفرة في النغم، بل يتلاقى نغمها، وتسهل مخارجها، فلا تكون واحدة نابية عن أختها، بل تتآلف وتتآخى في نسق واحد، بحيث لا تبدو واحدة ينطق غير مؤلف مع نطق تاليتها، أو كما قال الجرجاني في (دلائل الإعجاز): كل كلمة لقف مع أختها، ولو حاولت أن تنزع كلمة لتضع مكانها في معناها ما ائتلف السياق ولا انسجم الأسلوب. ويقول في هذا الباقلاني في كتابه (إعجاز القرآن):
واعلم أن هذا علم شريف المحلّ، عظيم المكان، قليل الطلاب، ضعيف الأصحاب، ليست له عشيرة تحميه، ولا أهل بيت عصمة تفطن لما فيه، وهو أدق من السحر، وأهول من البحر... وكيف لا يكون كذلك وأنت تحسب أن وضع الصبح، في موضع الفجر يحسن في كل كلام، إلَّا أن يكون شعرًا أو سجعًا، وليس كذلك، فإن إحدى اللفظتين قد تنفر في موضع، وتزل عن مكان لا تزل فيه اللفظة الأخرى، بل تتمكّن فيه، وتضرب بجرانها، وتراها في مظانها، وتجدها في غير منازعة في أوطانها، وتجد الأخرى لو وضعت في موضعها لكانت في محلّ نفار، ومرمى شرار، ونابية عن استقرار.
هذا ما ذكره الباقلاني في كتابه، وإذا طرحنا ما فيه من سجع لم يجئ على رسله، واتجهنا إلى ما يرمي إليه وجدناه سليمًا دقيقًا، وإنه لا ينطبق على كلام كما ينطبق على القرآن، ومقام القرآن فيه مقام الذروة والسنام.
وإن التأليف ليس فقط في نسق الألفاظ ونغمها، بل إنه يشتمل التآخي في المعاني كالتآخي في المباني، فلا يكون معنى لفظ نافرًا من المعنى الذي يجاوره، ويتألف من الألفاظ والمعاني وما توعزه من أخيلة، وما تثيره من معانٍ متداعية يدعو بعضها بعضًا، ويتألف منها علم زاخر، كثير خصب، وقد عبَّر عن هذا المعنى الوليد بن المغيرة بقوله: (إن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق).
ولنذكر لك شاهدًا على ما نقول هو قصة الأعرابي الذي سمع قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة: 38]، فأخطأ القارئ وقال: غفور رحيم، فقال الأعرابي: إنه يقطع الأيدي نكالًا فلا يتفق القول، فراجع القارئ نفسه وأدرك المعنى.
57 - وإن التآخي في المعاني والألفاظ ونسقها ونغمها ومعانيها واضح في كل آيات القرآن، لا في آية دون أخرى، ولا في سورة دون سورة، فلا تجد في لفظ معنى يوجه الخاطر إلى ناحية، ويليه آخر يوجهه إلى ناحية أخرى، بل تجد النواحي متحدة إمَّا بالتقابل وإما بالتلاصق والمجاورة، وفي كلتا الحالين تجد معنى كل لفظ يمهد لمعنى اللفظ الآخر، فلا تنافر في المعاني، كما أنه لا تنافر في الألفاظ، وهما في مجموعها يناسبان في النفس غذاء رطيبًا مريئًا، ونميرًا عذبًا سلسبيلًا.
وقد ساق الباقلاني آيات ليست مختارة اختيارًا؛ لأنَّ آيات القرآن كلها لا نظير لها، فليس اختيار من ينتقي؛ لأنَّ كله خير، وسنذكر آيات مما ذكر وأخرى لم يذكر كأن نفتح الكتاب، فيبدو نوره فنقبس منه قبسة.
وقرأ قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} [الشورى: 52، 53].
هذه الآيات الكريمة بعباراتها وإشاراتها البيانية، وسياقها تدلّ على ابتداء الرسالة المحمدية، وانتهاء أمر الناس في الأخذ بها، وعاقبة من اهتدى، ومن ضلَّ وعصى وغوى.
وإذا نظرت إلى الآيات الكريمات مع ما سبقها وجدتها كلامًا متآخيًا، يندمج بعضه في بعضه في ائتلاف لا نفرة فيه، فالآية قبلها تبين طرق كلام الله تعالى لخلقه، فقد قال تعالى قبل هذه الآيات: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الشورى: 51].
ولنبتدئ بالإشارات البيانية التي وعدنا أن ننبه إلى بعضها، فليست لنا الطاقة إلى إدراك كلها، ولعل غيرنا يدرك بعضًا آخر، ولا أحسب أننا جميعًا نصل إلى كنه إشاراتها.
فهنا نجد كلمة {كذلك} تربط هذه الآيات بما فيها، فهي تدل على المؤاخاة بينهما، وهي تشير إلى علوِّ الله في المعنى الذي قرره {إنه عليّ حكيم} وتشير إلى حكمة اختيار الطريقة في الرسالة المحمدية.
ولننظر في الألفاظ نجد التآلف بينها في النطق والنغم، أفلا نجد ائتلافًا بين كلمة أوحينا، وكلمة روحًا، وكلمة من أمرنا، لا أنبه إلى ما فيه من تآلف في النطق، وتآخذ في المخارج والنغم، فذلك بَيِّنٌ لا يحتاج إلى بيان، وهو يتصل بالذوق والجرس في السمع، فهو يدرك بالحس، ولا ينبه إليه بالمعنى.
ولكن نريد أن ننبه إلى التآخي في المعنى لكل كلمة سيقت، وما تتسع له كل واحدة من معانٍ تتلاقى مع أخواتها وتأتلف، فتعطي صورة بيانية رائعة.
فكلمة أوحينا تدل على أن خطاب الله تعالى لرسله لا يكون جهرًا يعلمه كل واحد، ويسمعه كل إنسان، فهو خطاب لرسول، والرسالة بمجرى الأمور تكون بين المرسِل وبين من يرسله، والتعبير بأوحينا إيطال لقول من يقولون: {أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَة} أو قول من يقولون عن جهل الله ورسالاته الذين يقولون: {لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ} أي: نراه ونحسه، ولذا رد الله تعالى قولهم بقوله: {وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ، وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} [الأنعام: 8، 9].
فكلمة أوحينا مع حلاوة لفظها فيها إشارة إلى هذه المعاني في عمومها، ولم يبين نوع الوحي؛ إذ هو على ضروب مختلفة متعددة بالنسبة لخطاب الله تعالى لأنبيائه عامة، وبالنسبة لمحمد خاتم النبيين خاصَّة، وذلك إمَّا برسول يشاهد، يرى ويسمع كلامه؛ كتبليغ جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم (يراها النبي صلى الله عليه وسلم وحده)، وإما بإلقاءٍ في الروع كما قال صلى الله عليه وسلم: «إن روح القدس نفث في روعي»، وإمَّا بمخاطبة الله تعالى وسماع كلامه سبحانه من غير حس، كما كان في المعراج وفرض الصلوات.
وبكل تلك الأنواع والطرق كان وحي الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم.
ونجد في إضافة الإيحاء إلى الله تعالى بيان عظمة الوحي، وكون الإيحاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم مخاطبًا له - جلَّ جلاله - إعلاءً لشأنه، وبذلك تتآخى في رفع شأن الرسالة والنبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله تعالى: {رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا}، والروح هنا قال أكثر المفسرين للقرآن إنه جبريل، ونرى أنها تشمل جبريل عليه السلام، فقد سمَّاه الله تعالى روح القدس، ويكون معنى الإيحاء الإرسال، ويشمل القرآن، ويشمل الشريعة نفسها، وتسميتها بالروح لما فيها من معنى البقاء والحياة إلى يوم القيامة، وإضافتها إلى من أمر الله تعالى لتشريفها وتشريف من جاءت إليه وبعث باسمها، وهكذا نجد مع ائتلاف الألفاظ في النسق والنغم وجرس الكلام تآخيًا في المعاني، فإنها كلها تدل على شرفها بعظم مصدرها وهو الله تعالى، وكبر المعاني في ذاتها، فكان لها شرف المعاني، وكان لها شرف أنها من الله تعالى، فأيّ كلام بليغ يصل إلى كل هذا في التآلف بين المعاني والألفاظ.
58 - والآية السامية تحوي في سياقها دليل الرسالة، فيقول تعالى: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ}، وإن هذا النص الكريم مع إيجازه يرمي إلى ثلاث حقائق:
الأولى: إنَّه ما كان يعلم علم الكتابة، فلم يكن قارئًا ولا كاتبًا، وعبَّر هنا عن العلم بالدراية؛ لأن الدراية علم يأتي بالتعلُّم والممارسة؛ فهو علم كسبي، وأنه ما كان يعلم بالدراية، ونفي الدراية في الإيمان؛ لأنه لم يكن هناك من يلقنه علم الإيمان إلَّا أن يكون إلهامًا من الله تعاونه الفطرة المستقيمة، وقد يقال: إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان مؤمنًا منذ بلغ التمييز وقبل ذلك، فكيف كان لا يدري الإيمان، والجواب عن ذلك: إنه كان موحدًا، ولكن بقية ما يقتضيه الإيمان من صلوات وزكوات وتنظيم للمجتمع وطرق التعامل السليم، ما كان يدريه، وبهذا يفسر قوله تعالى: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى، وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} [الضحى: 6، 7].
الثانية: إنَّ في هذا الكلام السامي حجة على أنَّ القرآن من عند الله تعالى، وأن محمدًا لم يأت به من عنده؛ لأنه ما كان يقرأ ولا يكتب، وهذا كما قال الله تعالى في سورة أخرى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت: 48].
الثالثة: إنَّ قوله: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ} الدراية داخلة على الاستفهام، ففي الدراية متجه إلى الحقيقة، أي: إنَّه ما كان يدري حقيقة الكتاب ولا تفصيل الإيمان، وهذه تأكيد لنفي العلم بالكتاب علم دراية، ونفي العلم بتفاصيل الإيمان علم دراية.
ولا شك أن كل كلمة من هذا النص وما سبقه تتآخى مع ما بعدها وما قبلها في تقرير حقيقة ثابتة، وهي أنَّ القرآن روح من عند الله، وكل روح فيها حياة، وحياته في الشريعة التي أنزلها، والتوحيد الذي دعا إليه، والحق الذي أثبته، والصلاح الذي بثه، ودفع الفساد في الأرض، ولكن القرآن نور هذا الوجود {وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا}.
59 - وننظر في النص وانسجام ألفاظه، وتلاقي معانيه، وإنك تجد للاستدراك هنا موضعًا طيبًا؛ إذ إن النص الكريم السابق كان فيه نفي الدراية عن حقيقة الكتاب وعن حقيقة الإيمان، والاستدراك هنا لا يفيد أنَّ نفي الدراية دائم، بل إنه ينتهي بعلم الكتاب الذي هو النور الذي يهدي به الله تعالى.
ولنترك الكلمة للباقلاني في الإعجاز فهو يقول:
جعله سبحانه وتعالى روحًا؛ لأنه يحيى الخلق، فله فضل الأرواح في الإحياء، وجعله نورًا؛ لأنه يضيء ضياء الشمس في الآفاق، ثم أضاف وقوع الهداية إلى مشيئته، ووقف وقوع الاسترشاد به على إرادته، وبَيِّنَ أنه لم يكن ليهتدي إليه لولا توفيقه، ولم يكن ليعلم ما في الكتاب ولا الإيمان لولا تعليمه، وأنه لم يكن ليهتدي لولا هداه، فقد صار يهتدي، ولم يكن من قبل ذلك ليهتدي، أي: إنَّ القرآن الكريم قبل نزوله ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يدري ما الكتاب ولا الإيمان، وبعد نزوله اهتدى وعلم، وبلغ مرتبة أن يحمل الهداية والإرشاد للناس بعد أن كان لا يدري الكتاب ولا تفصيل الإيمان، وهذا يفيد أنَّ القرآن تعليم الله للنبي، وللناس من بعده.
وإنَّ الكلام السامي {وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا} في هذا استعارة تمثيلية، أي: إنَّه هو كالنور المضيء الذي لا يضل فيه الساري ولا يختفي على من يبصر بسببه شيء، بل إن فيه تأكيد التشبيه بجعله هو النور، وأن الذين لا يبصرون حقائقه وما فيه من علم، العيب فيهم وليس فيه، والنقص منهم وليس منه، وإضافة جعله نورًا إلى الله تعالى تشريف له فو ق تشريف، وهو يتفق مع النسق الذي ابتدأ به النص الكريم، ولكن مع أنَّه النور الذي يهدي، لا يهتدي به الناس من غير أن يكون ذلك بمشيئة الله تعالى، فقال سبحانه: من نشاء من عبادنا. فبيِّن سبحانه سلطانه على القلوب، وخصَّ بالهداية من شرَّفه بأنه من عباده، تعالى سلطانه، وقام عدله، وفي هذا إشارة بيانية إلى أن الذي شاء الله تعالى هدايته هو من خلص نفسه، وجعلها الله وحده، وشرف بأنه من عباد الله لا من إخوان الشياطين.
ولقد شرَّف الله تعالى نبيه بأن نسب إليه هداية الإرشاد، وبيان السبيل فهو نور معه نور الكتاب، ولذا قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} أكَّد الله تعالى عمل النبي صلى الله عليه وسلم ببيان سبيل الحق والدعوة إليه، وأنَّه المستقيم الذي لا عوج فيه ولا اضطراب.
فهنا هدايتان: أولاهما: هداية التوجيه والإرشاد وبيان الحق ودعوته، وهي للرسل؛ لكيلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، فمن علم واستنار واهتدى فلنفسه، ومن ضل فإنِّما يضل عليها، وما الله بظلام للعبيد، والهداية الثانية العليا، وهي امتلاء القلب بالإيمان بعد أن سار في طريقه وأرشد إليه، وهذا لمن يشاء الله هدايته من عباده المؤمنين.
وقد ذكر الله تعالى من بعد ذلك الحكم العدل بإعطاء الطائع جزءاه من ثواب، وما يستحقه العاصي من عقاب، فقال تعالى: {أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُور} أي: وإليه وحده مآل الأعمال كلها، وكل امرئ بما كسب رهين، فمن عمل صالحًا فله جزاؤه، ومن عصى وبغى نال عاقبه ما عمل.
ونرى من هذا تآخي المعاني في الآيات، وتسلسل ما ترمي إليه، فبيِّن أولًا بعث النبي صلى الله عليه وسلم، وإعطاء الدليل بمجزة القرآن، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وذكر ثانيًا الحجّة على صدق القرآن، ثم أشار إلى أنه نور، وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه الإرشاد وبيان الحق والطريق إليه، وأن الهداية من بعد ذلك.
هذا تآخي المعاني، وكون كل معنى مقدَّم للذي يليه والتالي مبني عليه ودعامة لما بعده، أمَّا تآلف الألفاظ في النغم والحروف فأمر فوق طاقة البشر.
وإنه ليتألَّف من هذا الكلام صور بيانية للوحي، والقرآن ونوره وهداية الأنبياء وموضعها، وهداية الله تعالى، وثمرتها في القلوب، وكونه لعباد الله المخلصين، لا لعبدة أهوائهم وشهواتهم.